الأنا وفوتوغرافية العمل السردي في( رواية سيلفي) لنسرين بن لكحل
الأنا وفوتوغرافية العمل السردي في( رواية سيلفي) لنسرين بن لكحل
قراءة وتحليل : خالد الضبيبي
"إنَّ الناقد إذا فرضتْ وظيفتُه أن يتحدث عن كلام الآخرين إلى حد أن يريد بالظاهر إنهاءه فهو كالكاتب لا يملك أن يقول الكلمة الأخيرة. وأكثر: هذا الخرس النهائي الذي يشكل وضعهما المشترك هو الذي يكشف الهوية الحقيقة للنقد؛ فالناقد كاتب"
رولان بارث
يعتبر العنوان عتبة مهمة من عتبات المنتج الأدبي
و كلما كان مختلفاً ومختاراً بعناية كلما استطاع الحياة أكثر في ذاكرة القارئ، العنوان هو جزء من صورة سيميائية للعمل وعتبة مهمة ومدخلا ورابطا مهما للعمل ويدخل بعلاقة تكاملية مع النص وهو علامة ومحفز قرائي ..
نسرين بن لكحل (من عروس الملح إلى سيلفي )
تكتب نسرين بن لكحل النص بوعي تام ، وهي من جيل الشباب ، امتدت تجربتها الكتابية منذ سنوات ، من خلال كتاباتها على شبكات التواصل الإجتماعي والنت عموماً ، أو من خلال الأعمال المطبوعة
وما يميّز هذه الكاتبة أنها تجاوزت نفسها كثيراً في السنوات الأخيرة وقد استطاعت أن تعبر خط البداية بسرعة نحو تأسيس الرؤية والفكرة والإشتغال على النص الجديد والأجد وبجدية تامة. ومنذ إصدارها لعملها الأول عروس الملح وضعت اقدامها على خط الكتابة السردية بثقة متجاوزة الكثيرين من أقرانها وفي فترة قصيرة جداً.. بن لكحل حصدت مؤخراً المركز الأول في (جائزة الرئيس على معاشي للمبدعين الشباب فرع الرواية)في الجزائر للعام 2019م
مقدمة
في هذا المنتج فكرة جديدة وحداثية نستطيع معرفتها من أول وهله عند قراءة العنوان (سيلفي) الذي جاء حداثياً معبراً عن الذات ، وسوف نتحدث عن هذه الصنعة في هذه الورقة الموجزة ، من خلال نظرة مجهرية تعمل على تشريح العمل واستشعار الأنا و فتوغرافية العمل السردي الذي حققها النص وهو يربط علائقيات الصورة بالمدلول الفكري للأنا..
سوف نبدأ من عنوان العمل " سيلفي" ذلك المعنى الذي جاء لتقديم الذات بطريقة الصورة ..والمعروف أن مصطلح سيلفي مصطلح حديث و هو نوع من انواع التصوير الذي يقدم نظرة مختلفة وحديثة عن الصورة وهي تلك الصورة الملتقطة ذاتياً عن طريق كاميرا عادية أو رقمية ولم يكن اختيار سيلفي كعنوان للرواية سوى خيط من خيوط الإنعكاس الذي تود الكاتبة التقاطه من الواقع وتفعيله سرديا وفق آلية محددة نراها واضحة داخل النص الذي يعكس صور متعددة للأنا في شخصيات العمل وذلك من خلال الشخوص أو من خلال الأفكار التي ناقشت الحراك الذاتي وهي تطرح علائقيات فلسفية مهمتها نقل صور سردية حديثة عن الذات برؤية تشريحية فلسفية ، إلى جانب شروع العمل بتبني زوايا خاصة كتلك الزوايا التي يستخدمها مصور السيلفي في التصوير وذلك من خلال تبويب الرواية بنوع من اللقطات والزوايا وعلى هيئة الزوايا التي يتم اخذها عند التقاط الصور الذاتية الالتقاط ..
سيلفي
رواية صادرة عن دار ببلومانيا
للكاتبة الجزائرية نسرين بن لكحل
سوف نبدأ من العنوان فالعنوان رسالة مهمة تعكس رؤية العمل ؛ أو على الأقل يصبح عتبة مهمة تقوم بربط القارئ بالعمل من اللحظة الأولى كما ذكرنا سابقاً.
تنطلق الكاتبة في (سيلفي) من ثيمة الصورة وهي الأيقونة التي تم تحديد إطلاق العمل من خلالها وهي تحاول الإشتغال على ابعاد افتراضية فالصورة هي تلك الحظة المستقطعة من الواقع التي يتم تثبيتها لإيقاف عجلة الزمن في البعد النظري ولكن في
(رواية سيلفي )الموضوع يختلف فقد حررت الكاتبة الصورة من الجمود باضافة ابعاد ذاتية .. وبما أن السيلفي نمط تصوير ذاتي يعكس الخصوصية الذاتية للصورة.. عملت الكاتبة على تقسيم العمل إلى ثلاث صور اساسية تحمل عناوين (الصورة في الماضي) (الصورة في الحاضر) (الصورة في المستقبل ) وباختلاق زوايا داخلية بجمل فرعية لكل صورة لتنطلق الرواية بابعادها المتعددة مع تخليل ذلك بالانعكاس الداخلي الذاتي من خلال الانعكاس الروحي للأنا النابعة من أرواح شخصيات العمل باسلوب سردي عام..
وقد بدت الرواية أشبه بالأرخبيل القصصي ،
وهي تتحدث عن المعاناة برؤية معينة تحاول فرض إطار الصورة التجريدية المحاكية للزمن واستثمارها بطابع فلسفي بحت ؛ وقد غلب عليها التوجيه الخطابي الفكري ، ومنذ الصفحة الأولى تضعنا في ديلاكتية السؤال : من أنا ؟ ومن أكون ؟
لتبدأ ببناء نفسها تدريجياً من خلال إفتراع الارخبيل الثلاثي لثلاث شخصيات محورية تحت رؤية جامعة، وهي ال " أنا " فتنمو تدريجيا بنسق وبتواز مع بعضها البعض .. ثلاث قصص لثلاثة شخصيات منفصلة تمضي في وقت وأحد ؛ لكل قصة أبعاد خاصة ومساحة خاصة ونمط خاص ودلالات قرائية خاصة ...تجتمع بال " أنا" الداخلية وتفتيت الصورة من المدلول اللاوعي إلى الجانب التصوري القرائي لتعكس تشريح دقيق للصورة في كل قصة .
بالنسبة للقصة العامة استطاعت الكاتبة أن تنطلق من نظريات فلسفية ولكن باسلوب وجداني فكري وهذا الاستدعاء الواعي يقوم بعكس الرؤية والفكرة التي تحاكي الوعي واللاوعي من جانب المدلول الفلسفي لوضعها في البعد القرائي عن طريق المحاكاة بالروي الذي يقوم بوضع تصور للقصة من كل الزوايا ... والكاتبة بأسلوبها الخاص وبرؤيتها الخاصة إنطلقت وبشكل مختلف لتستثمر الفكرة في الوعي واللاوعي بطريقة جديدة وحديثة ، من خلال إفتراع أسلوب خاص في ربط الأرخبيل السردي بعضه ببعض من خلال الاشتغال على تجويد النص الروائي، وهي تدس مفاتيح الرؤى الفلسفية وتقوم بربط علائقيات الصورة بالأنا من خلال مزج الابعاد السردية بالزوايا السيميايائية للواقع وللصورة بجميع ابعادها وزواياها . وقد ظهرت براعتها في تطويع الفكرة المستهلكة وتحديثها وفق وعي تام وحداثة فلسفية ، وأسلوباً حداثياً خاصاً بها هي ؛ وسوف نتوقف هنا عند بعض ملامح العمل ..
- الشخصية كائن من ورق
انطلاقاً من رؤية الناقد الفرنسي رولان بارث بأن الشخصية ما هي سوى كائن من ورق وبأنها ليست أكثر من قضية لسانية حسب تودروف نرى الشخصية في (سيلفي) تبدأ سارد حكائي صوري وبأبعاد نظرية تم خلقها وتوظيفها من أجل النص لتصبح لاعباً أساسياً فنتازياً يحاول التقاط ابعاد النص وتوظيف الصورة من زوايا مجهرية دقيقة وترجمتها إلى مقاطع سردية إلى جانب استثمارها وتحويلها إلى ابعاد متحركة تموت وتحيا وفق استدعاء واع قبل أن تموت مختنقة في دوماة الأنا و يتم التحكم بها وسحقها في النهاية لتحقيق الإغلاق الكلي للنص وسوف نرى مقاطعا يتم فيها استخدام نظريات سيميائية لخلق مساحة للصورة عن طريق استدعاء نظري وقد تم خلق الشخصية وترجمة الرؤية العامة لها. من أجل هذه النظرية وربما أكثر من ذلك فقد اختارت الكاتبة أن تستأنس برؤية بارث لتنقلها كحدث مفصلي داخلي في الرواية لتحول شخصياتها الثلاث إلى مجرد شخصيات ورقية مع اضفاء ابعاد فوتجرافية سردية لتحويلها إلى دال ومدلول ..
بناء الشخصيات كان رسماً حاداً للملامح الفكرية العامة للشخصيات وذلك عن طريق انتاج صورة ذهنية سريعة تلتصق بالذاكرة وتؤسس لسير النمو الروائي عن طريق رسم الصور واشتغالها على الورق بحيث تتحول الرواية إلى لوحة مكتملة تحمل عناصرها التي امتازت بقوة الحضور والتأثير.. من هنا نرى ارتفاع نسق السرد من الأدنى إلى الأعلى إلى الإغلاق في دائرة الصورة برسم دقيق لشخصيات العمل والفكرة العامة والهدف ..
- استدعاء الواقع بصور حوارية
لقد حاولت الكاتبة تبني لهجة دارجة غير مفصحه في بعض الحوارات ولكنها كانت قد اغلقت الحوار بشكل مقتضب وفي ما يخدم النص وهذا يحسب لها ..وهي اذ تستدعي جمل حوارية من واقع معين تحاول اعطاءه انعكاساً مجتمعياً محدداً وهذا كان جزءً من الإشتغال على الإنعكاس السردي الذي يوظف الصورة بابعادها المجتمعية ومن زوايها الخاصة .
هذا وقد تموج الحوار بين عادي وفكري وفلسفي وهذا يدل على أن الكاتبة تحاول عكس أفكارها من خلال ترويض النص والشخصيات وتحويل كل هذه الأفكار إلى صور سردية وفق جمل بلاغية وقد عملت على تحميلها افكار متعددة وهذه مغامرة كبيرة قد ترهقها في أعمالها القادمة ..
كان للأنا العليا نصيب من السرد الداخلي بينما كان السارد بالغالب شخصية مشاركة محورية وهذا ما جعل النص روائي أكثر منه حكائي وفلسفي أكثر منه قصصي ..
- الإقتباس وفلسفة تحميل الصورة الثقافة
وظفت الكاتبة في القصة الأولى بعض الجمل والأسماء والأعمال والشخصيات ، وها أنا ذا أرصد ما لا يقل عن 15 إقتباساً متنوعاً ، بين كُتباً وكُتّاباً وجملاًً فلسفية وفكرية ؛ حاولت الكاتبة إستثمارها في بناء شخصيات أبطالها تارة وتارة أخرى من أجل إيصال رسائلها الفكرية ، وذلك عن طريق خطاب فلسفي من الأنا العليا التي تقوم برسم لقطات من عدة زوايا عن الشخصية ؛ وتستطيع نقل الصورة بطريقة سردية واضحة ..ايضا مُحاولةً منها عكس مدى ثقافة الشخصية وتوجهاتها الفكرية واخالها في بعض المناطق ارهقت الشخصيات قليلاً..ولكنها تحررت من هذه الإقتباسات مع أنها ظلّت تستثمر خلفيتها المعرفية بإستدعاء بعض الجمل وحتى الشخصيات كما في شخصية "الكرة " لتوم هانكس، وبعض شخصيات الروايات محاولة منها إنضاج العمل وتفعيل وانضاج الجانب المعرفي لدى الشخصية وضبط بؤرة الصورة سردياً ..
بشكل عام الكاتبة ركزت بقوة على كتابة النص وطوّرت السرد والرؤية العامة بجزالة اللغة وبناء الشخصيات وبالإشتغال على الاحداث ، فنراها قد نحت منحاً آخراً من خلال توسيع النص مستخدمة مقدرتها الكتابية واللغوية في بناء الجمل الطويلة والفلسفة العميقة التي حاولت التركيز عليها وتمكنها من كتابة الجملة بشكل سليم .. وهذا نراه واضحاً في الرسائل التي حاولت من خلالها الوصول إلى أعلى مستويات الحدث ..
- صورة السيلفي والإنعكاس الواعي للأنا
في سلفي إستطاعت الكاتبه عمل سجال ثلاثي بين ارخبيل قصصي ؛ البراعة الحقيقية كانت من خلال انعكاس الصورة في السرد ؛ فالكاتبة استطاعت صدمنا بسير جديد للأحداث وفق التقاط الصورة ومن وزوايا متعددة وقد أعطت الرواية اسلوباً حداثياً من خلال قلب طاولة التوقّع ، والإقتراب من الذات بتصوير الإنعكاس الحقيقي للشخصيات على الورق الذي جعل الصورة جزء أساسيا من العمل الذي تحرك نحو خلق صور جديدة ومختلفة في النهاية وذلك عبر اللعب على تبديل الأدوار وحرق التوقعات ، لتثبت انها متمكنة جيداً من التصاعد الروائي ونمو الحدث بما يخدم الفكرة والرواية لايصالها حتى النقطة الأخيرة بشكل جيد وموفق ..
- لغة الصورة الغنية بزوايا متعددة
يحسب للكاتبة لغتها الجزلة وفلسفتها الواضحة التي بدت واضحة جداً في أغلب جُمل الرواية والتي تعكس رؤى واعية جداً بشكل سلس أرادت إيصالها من خلال حوارات وأفكار الشخصيات الورقية وقد حاولت معالجة قضايا كثيرة بلغة محكمة ..
وقد تداخلت النظرة العامة للأنا بالقضايا في الرواية واقتربت أيضا من معالجة القضيا وإبراز المعاناه وانعكاس ذلك بدا واضحاً في قضية مريض الصّرع المتمثل في شخصية حسن ... أو معالجة قضية الهجرة والمتمثلة في شخصية مروان ... أو حتى معالجة العُقد المرافقة للأفراد منذ الطفولة كما في قصة يعقوب ..
- ابواب سيلفي :
صور من الماضي- إلى حاضر- إلى مستقبل
أما في ما يخص الإبداع والإدهاش وربما كان هذا لب العمل برمته يحسب للكاتبة انها وظّفت فكرة الصورة في الرواية للتعبير عن الإنعكاس الذاتي للواقع في صورة السيلفي وقد اطرت ذلك بالعتبات الداخلية للمنتج من خلال تبويب الرواية على حسب البعد النظري -"الصورة وديالكتية التأثير "- محاولة منها الاشتغال على فلسفة فوتغراغية الصورة الذاتية (السيلفي ) فقد فرعّت الرواية على حسب لقطات وصور ، لتصل أخيراً إلى رؤية عامة مفادها أن الصور جزء من كينونتنا وهي حين إختارت هذا الإتجاة للرواية ، أعلنت صراحة عن استثمارها لآراء الناقد والأديب الفرنسي " رولان بارث" الذي ركز هو بدوره في كتابه الغرفة المضيئة ( تأملات في الفوتوغرافية ) على دراسة مفهوم الصورة وانعكاساتها ..
ولكنها استطاعت تحويل النظرية إلى رواية ، حتى أنها تبنت بعض رؤى بارث في بعض المشاهد مثل مشهد (البؤرة) التي ذكرتها حرفياً في مشهد الغرفة المظلمة والتي كانت جزءً من فلسفة بارث عن الصورة والعودة بعد الموت..
ويحسب لهذا العمل فلسفة تحريك الشخصيات والربط السلس بين الشخصيات ، وفكرة التحكم بالخلق والموت والتلاشي ..
- سيلفي رواية حداثية
أخيراً نستطيع القول أن رواية "سلفى" كانت رواية حداثية الشكل والمحتوى، ورغم كلاسيكية القضايا
إلا أن الكاتبة استطاعت التحليق بها في فضاء سيميائي فلسفي وقد أحتلت فكرة الصورة الذاتية التي تحولت إلى هاجس بشري عام ثيمة انطلاق بعد أن وصلت ذروتها إلى حدود التعبير بها عن الانعكاس التفاعلي للذات والمشاعر وأيقونة يتم التعبير من خلال أو محاكاتها في جميع فنون وآداب الحياة ..من هنا حاولت الكاتبة الاشتغال على هذا النص الذي يربط الصورة بالسرد عن طريق كتابة نص يحاول تقريب المسافات بين الأنا والصورة والسرد ، من باب أن كل هذه التفاعلات الحالية هاجس عام. استطاعت الكاتبة التعبير عنها من خلال براعتها وتمكنها من اللغة وسبك الجمل بالمفردات ، ومن خلال توجيه الخطاب الفلسفي الفكري نحو معالجة القضايا الإنسانية على نفس النسق ، ومن خلال نقل فلسفة الصورة بطريقة روائية ومن زوايا متعددة بطريقة فوتغرافية سردية ومزجت كل هذا فلسفياً بالأنا وقد صرحت في آخر جمله لها بكل صراحة عن تلاشيء فكرة الوعي والعلم ..رغم وجود ما تراه حافظة مستقبلية كما تسميها (الزاوية في صورة المستقبل )
إلا أنها مؤمنة أن كل ما يحدث في الأنا مجرد انعكاس مرئي ومجرد صور منعكسة من العقل الباطن ..
وايضا من خلال تبنيها لفلسفة "فرويد " التي عملت على شرح أقسام النفس( اللهو والأنا والأنا العليا )من خلال مزجها بطبيعة الإنسان وفق النظرية البنيوية تلك التي تقدم لنا ديناميكية الوعي واللاوعي
وهي إذ تقوم باستخدام الإقتباسات للتعريف بالرؤى الحياتية المتعددة محاولة تشريح صورها تحاول وصل النص بالصورة ومزجهما بالـ "أنا " والكينونة وهذا أيضا ما جعلها تختار الصورة كعتبة وثيمة اساسية معبرة عن الذات في هذه الرواية ..
سلفي رواية في 230 صفحة
من القطع المتوسط
للكاتبة الجزائرية نسرين بن لكحل
لها ايضا "عروس الملح " 2015 ..
خالد الضبيبي
كاتب من اليمن
صنعاء- 21/6/2019
تعليقات
إرسال تعليق