الـ تـ فـ ا صـ يـ ل




" في التفاصيل يكمن الشيطان "


 لا أعلم من قال هذه العبارة ، وما السبب الذي دعاه لقولها بتلك الصيغة ، ولكن ما أعرفه أن التفاصيل قيمة إثرائية حقيقية ، وإن كان المُراد بالشيطان هُنا التميّز والتفّرد فذلك حقيقة ، ولكن إن كانت النظرة دون ذلك فالجملة سطحيّة جدًا لا تعدو أكثر من تجديفٍ خاطئ في الجانب السلبي .. تعالوا نرى قيمة التفاصيل في الإتصال القرائي وفق نظرية التلّقي .


قبل سنة تحديدًا تابعتُ فيلم " الجوكر joker " وقبله فيلم "  " الكتاب الأخضر green book " ،  وكما أذكر التجربتين كانتا من خلال تصوير سيء الدقة ، وكانت تجربة المشاهدة سيئة جدًا، خرجتُ بعدها بنظرة سلبية غير سليمة عن الفلميّن مع إعجابي بفيلم جرين بوك في ذلك الوقت ، قبل يومين أعدتُ مشاهدة نفس الأفلام ، ولكن بنسخ بلوريّة عالية الدقة.

 هُنا تغيّرت وجهة نظري ، رأيتُ شيطان التميّز بأمّ عيني ، هُناك أشياء خفيّة موجودة في التفاصيل الدقيقة التي تحتاج إلى التوقف مُطولا عندها.

 في نظريّة التلّقي يّتم قياس وجهات النظر من قِبل القُرّاء كلا على حدة ليتم الخروج إلى فهم كيفية الإستيعاب وكيفية التفاعل مع النص ، وتحديد وجهات النظر ، استخلصها النقّاد من ردود القرّاء المباشرة بأن لكلّ شخص وجهة نظر مُختلفة عن الآخر من خلال القراءة والرؤية ولها معايير خاصّة تدخل فيها الحالة النفسية ، الزمان ،المكان ، المعرفة المسبقة ، الثقافة ، كُل هذه التفاصيل الدقيقة تفرض سطوتها على القارئ لتجعل القراءة عمل دقيق جدا يحتاجُ النظر بشكل دقيق إلى التفاصيل .

في كتابه نظرية التلّقي يقوم "روبرت هولب" محاورة التلّقي عن طريق مُناقشة مستويات التفاعل بين النص والقارئ ، ويضع هولب أمام القارئ مستويات متعددة وتجارب علمية عن كيفية قراءة النص وكيفية تطّور مُستوى التلّقي وتعددها لدى أشهر من اشتغل بها بدءًا من ياس وايزر ، هانز جمبرخت ، كارليهانز شتيرله ، رولف جريمنجر ، جنتر ڤلدمان ويذكر دور علم الإجتماع في تطّور هذه النظريات ويقدم بحث ثريّ وتشريح دقيق عن نظريّة التلّقي بمستوياتها المُتعددة ومدارسها المتنوعة وكيف تؤثر هذه الدراسات في فهمِ النص والتفاعل معه وقراءة تفاصيله الدقيقة .


إذا طَرحنا سؤال بسيط ماهي التفاصيل ؟ 

سَتتغيّرُ الاجابة بطبيعة الحال من شخص إلى آخر وغالبًا جميعنا قد يُعّرفها أنها تلك الاشياء الدقيقة التي تكمن في كلّ شيء في الحياة ، التفاصيل هي تلك الثنايا الصغيرة الموجودة في كلّ شيء في الحياة سواء أكان ماديّ أو معنوي لهذا تحتاج تلك التفاصيل إلى قراءة دقيقة جدًا لنستطيع فهم ماهيّة عملها وكيفية تأثيرها في الواقع العام ، إن التفاصيل أشبه بالتروس الصغيرة في ساعة اليّد ، نحن لا نراها ولا نؤمن بقدرتها على إحداث شيء بشكل منفرد وقد لا نعترف لها بالفضل ، لكنها تظلّ هي المحرك الأساسي لكلّ شيء في حياتنا ، نحن لا نرى التفاصيل ولا نلحظ وجودها لكنها تعمل على تجميع القيّم وترتيبها ونقلها بشكل مُكثف يعكس بُعد كليّ عام ويُقّدم ثراء في المحتوى وعمق في الرؤية وقيمة عُليا وسامية في التأثير.


في العمل المرئي تبدو التفاصيل أكثر أهمية وأكثر تأثير ؛ ويعود السبب كونها يجب أن تأتي ببعدين ؛ البُعد الفكري في النص ، والبُعد النظريّ في الإخراج والاسلوب ، وتقديم التفاصيل في المادة المرئية تكمن في البُعد النظري والمفهوم الفكري على حدّ سواء فحيث هُناك نصّ مميز وسيناريو مميّز يجب أن يكون هناك فلسفة إخراجية مميّزة تهتم بأدقّ المؤثرات التي تخدم أو تتفاعل مع النصّ وتتسقه به ، إذًا التفاصيل هي العُمق الحقيقي للرؤية التي يّتم توظيفها لنا ، فشخصية مثل الجوكر لم تكتسب تلك الهالة بسبب شكلها ولكن بسبب التفاصيل الدقيقة التي كونتها الشخصية ، الأماكن ، التفاعلات في الوجه ، الحياة ، السكن ، الشارع ، الناس ، الضحكة ، في تغيّر الشخصيّة وتطورها ، كلّ شيء لم يكن واضح في النسخة السينمائية الرديئة ، لكن في النسخة البلوريّة كلّ شيء واضح جدًا تستطيع رؤيته بعينك المجردّة والتفاعل معه ، التفاصيل تحتاج إلى مجهر خاص لرؤيتها وهي الثقافة والخلفيّة القرائية ، ولكن في الحيّز المرئي تحتاج إلى الإنعكاس الدقيق وهو ما توفره النُسخ عالية الدقة والتي أصبحت جزءًا من النقلات الحضارية حاليًا والتي تحاول إيصال التفاصيل إلى أقرب بُعد ممكن من خلال تطّور آليات التصوير .. 


أ.خالد الضُبيبي

الاربعاء 29 ديسمبر 2020


 ... يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبد الرحمن منيف و قصة حب مجوسية

إيجابية النقد و"هوس العمق"