إيجابية النقد و"هوس العمق"

 إيجابية النقد و"هوس العمق"





يسعى النقد دائمًا إلى إعادة ضبط إيقاع الأدب، أو محاولة توجيه المبدع بشكل غير مباشر إلى الطرق السليمة من أجل إخراج النص بشكل منضبط، ويأتي دور النقد بعد دور الابداع وذلك لأن النقد يناقش الابداع بعد العملية الابداعية، من هنا يرى النقد الحديث أن عملية الإبداع يجب أن تخضع لضوابط إجرائية تعمل على إخراج نص إبداعي شبه تام، وقد رافق تطور الأدب تطور آليات النقد وتعددت مدارسه ومناهجه ونظرياته، والتي عمدت إلى تحديد انواع الأدب واستطاعت أن تساعد على ظهور اطوار وأنماط متعددة، لقد تعددت المفاهيم والرؤى للنقد ، هناك من يرى النقد تحديد جوانب النص سلبياته وإيجابياته على حد السواء وهناك من يرى أن النقد هو مناقشة الأدب عن طريق النظرية الأدبية وهي النقاش الفلسفي لطرق النقد الأدبي وأهدافه، وقد اعتمد البعض على الذوق والفكر الشخصي والجانب التحليلي الانطباعي.

ولا يبتعِد تعريف النقد الأدبي الحديث كثيرًا عن معطاه المعجمي واللغوي، فالفكرة الأساسية من النقد تبقى واحدة ألا وهي تحليل النصوص وتمييز جيدها من رديئها وإبراز محاسنها وعيوبها، وهذا ما سار عليه النقد القديم وفاضل الشعراء على أساس منه، وتابعه المحدثون من بعدهم، غير أن النقد وفقًا لتعريف النقد الأدبي الحديث قد أخذ يتجه نحو المنهجية العلمية فأصبح علمًا قائمًا بذاته مستقلًا في اصطلاحاته وتصنيفاته العلمية عن سائر العلوم التي تسعى لتفسير الأدب وشرحه وتتبع ترجمة أصحابه، فتعريف النقد الأدبي الحديث هو تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفنون عامة أو إلى الشعر خاصة ويقصد به القدرة على التمييز والقدرة على التفسير والتعليل والتحليل والتقييم..

من هنا يأتي دور الناقد الأدبي بالعموم وهو الفاحص أو أداة القياس التي تعمد إلى تفكيك النص اما باسلوب صحفي جامعي وهو أسلوب قديم جدا أو أسلوب أكديمي حديث وهو ما يضع النقد في المقاربات والقراءات والدراسات أكثر منه من الانطباعية الصحفية التي خاضها  الناقد الصحفي قديما بشكل غير منضبط، وقد نتفق على مسألة أن الناقد على مر العصور متهم بأنه الكاتب الفاشل أو الشاعر الفاشل الذي تحول إلى النقد لقصور في الاشتغال بالعملية الابداعية ليضع نفسه بصدام دائم مع المبدع وهذه الدعوة مغرضة كانت ترى أن الناقد لا دور له أصلا وأن النقد بكل لا جدوى منه..

مع ذلك يظل النقد مرافقا للأدب وتابعا له ويظل الناقد يحاول اللحاق بالعملية الابداعية بقدر الإمكان مهما كلفه ذلك من سعي ومهما كانت التهم تلتصق بنيته عند تفكيك النص أو محاولة قراءة ايجابياته وسابياته.

إن دور الناقد هو إطلاق الوعي الضمني المقتنص من داخل العملية الابداعية ومحاولة تحرير القيود والمساعدة في توسيع بؤرة النظر لدى الكاتب، وهو إذ يقدم على هذا الدور يقدم خدمة للكاتب إلى جانب أنه يقدم خدمة للأدب بشكل عام..


يوم أمس أشار الي أحد الأساتذة الاجلاء بمشاهدة فيلم قصير يناقش فكرة الهوس أو"هوس العمق " ودور النقد في ذلك الهوس، طبعا الفيلم مصري قصير يناقشة قصة "هوس العمق" للكاتب الألماني الرائع باتريك زوسكيند صاحب رواية العطر، تمثيل يسرى اللوزي ومن سيناريو وحوار …… ومن إخراج ……. وقد ذيل استاذنا العزيز رسالته بطلب معرفة وجهة نظري في الفيلم،..

شاهدت الفيلم على عجل وهو فيلم قصير لا يتعدى خمسة عشر دقيقة ، ولم أكتف بكتابة وجهة نظري حول الرؤية العامة للفيلم من واقع المشاهدة فقط ولكن قمت بتحميل النص الأصلي في محاولة لقراءة العمل المكتوب والمقارنة بينه وسيناريو الفيلم،صراحة لم يختلف النص في الفيلم عنه عن النص الأصلي وطبعا هذا ليس الغرض من كتابة هذا المقال ولكن تفكيك العمل على حسب الرؤية..


قصة هوس العمق

النص بسيط جدا يتحدث عن فنانة موهوبة لديها رسومات جميلة، كانت فخورة وسعيدة بانجازها وقررت أن تقيم معرضا لأعمالها  وتقوم بدعوة بعض الكتاب والنقاد والصحفيين، وتم ذلك، وبينما هي تستقبل الرواد لفت نظرها ناقد يتفحص الصور ويقف بجوارهن لمدة طويلة، وبينما هم في حوار عن الفن قال لها أنت فنانة موهوبة ورسوماتك رائعة وجميلة ولكن رسوماتك ينقصها العمق، هنا كانت النقطة الفاصلة،عادت إلى البيت في ذلك اليوم وهي تفكر بكلمة ذلك الناقد حاولت أن تفهم مغزى مايقوله ولكنها فشلت،تغاضت عن ذلك وحاولت أن تعود للرسم ولكنها لم تستطع ،كان الهوس بالعمق بدأ يتسرب إلى عقلها وهنا بدات تكره اعمالها وتنطوي على نفسها، قررت القراءة عن العمق وذهبت لشراء كتاب وخاطبت البائع اريد كتاب عمق، أعمق كتاب، اعطاها كتاب لشوبنهاور ولكنها ظلت ايام تقرأ ولم تستطع أن تفهم شيء، تحولت حياتها إلى جحيم انطوت واغلقت على نفسها المنزل ورفضة قبول أحد، دمرت لوحاتها السابقة وهي تبحث عن العمق، مرت بمراحل شتات وضياع، حاولت العودة للحياة والناس والصخب والعلاقات ولكنها لم تستطع كانت تعتقد أن هناك شيء ينقصها ولا تعلم ما هو تبحث عن العمق  في داخلها وفي الناس وفي العالم ولكنها لم تجده وفي النهاية صعدت إلى سطح منزل وانتحرت .. القصة (بشكل مختصر)


الوعي هدية نقدية قاتلة 


برأيي أن الفيلم أوالقصة مرت بثلاث مراحل اشتغل عليها المؤلف وحاول من خلالها إطلاق النص وسوف اقوم بتفكيكها عن طريق المنهج النفسي كالتالي :


 سوف اقوم بتقسيم النص إلى ثلاث مستويات


أولا: اللاشعور "مرحلة غياب الوعي "وهو ذلك المحرك الذي يدفعنا للتعامل مع الواقع بمفهوم بسيط خارج نطاق الادراك العام أو الوعي ومن خلاله  نستطيع التعايش مع الواقع بادراك بدائي نابع من مستوى وعي بسيط يوجهنا ويعمل على تحفيزنا على التأقلم مع الواقع وفي هذه المرحلة يكون العقل غير مهتم كثيرا بالنزوح الفكري والاشتغال الداخلي ولا حتى بمعرفة الذات نفسها، محرك بسيط يقدم الاشتغال المتراكب المتداول الذي يحقق التوائم مع الرؤية النمطية العامة في مستوياتها البدائية.. ونرى ذلك واضح في الارتخاء الذاتي والتوائم العام مع الرؤى المتداولة التي ترى المحسوسات المباشرة كجماليات وذلك باعجاب الفنانة باشتغلها القائم على رسومات متوائمة مع الواقع العام والتي تحمل قيمة جمالية متداولة تدور في سياق ثابت لا جدوى منه، لوحات جميلة ولكنها خالية من العمق بحسب رأي الناقد ..


ثانيا:  الوعي "صدمة العمق " التي جاءت بعد كلام الناقد، هنا برزت مرحلة متطورة،

قليلا ما يصل إليها المبدع أو الفنان لأنها تحتاج إلى مستوى تقبل للراي الآخر أو تقبل النقد والتوائم معه وتتبعه حرفيا، نرى ذلك واضح في كل الرؤى التي ترفض حتى مصطلح العمق لأنها لا تستطيع تفكيك المعنى، لذا تحاول الدفع بعدم جدوى الحديث في الموضوع لعجز في فهم الغرض من الحديث فيه أساسا، برايي أن العمق هو جزء من الوعي أو أن العمق هو الوعي ذاته والذي ظهر مع بداية اختراع اللغة والكتابة، ولست مع ماركس بأن الوعي ذلك البناء الفوقي الذي تتجلى فيه جميع الانشطة الانسانية، مع أنني أتفق أن بداية الوعي هو الادراك الذاتي ولكن الوعي في الفيلم وعي ذاتي فكري فلسفي ابداعي، والذي حول النظرة من لاواعية إلى نظرة عميقة مجهرية، من هنا يجب التنويه على أن من يصلون إلى مستوى الوعي بدون القدرة على فهم كيفية التعامل معه أو توظيفه ينتكسون بشكل مبالغ به أو بشكل هائل يأثر في مسيرتهم الابداعية بكل، وربما في حياتهم أيضا ..

لقد ظهرت مرحلة الوعي والإدراك في الفيلم مرحلة اعادة قراءة الذات بعد عملية النقد، صحيح أن الفيلم كان بداخله بعض تداخلات للوعي بمستوياته ولكن سوف نركز على الوعي الفكري الفلسفي الإبداعي الذي يهتم بالعمق كاداة تفرد مهمة لا يتحقق الوصول إلى الابداع بدونها..

إن خروج الفنانة من حالة اللاوعي إلى الوعي جعلها غير مدركة لماهية العمق؛لأنها لا تمتلك آليات وعي قادرة على تقبل انتكاسة المعرفة، لذا ظلت غير قادرة على فهم الغرض من العمق أو كيفية توظيفه، لهذا ظلت بمساعدة الوعي الجديد تبحث عن تعريف للعمق بشكل فردي وبامكانيات شخصية لكي تستطيع من خلاله قراءة العمق والوصول إلى ماهيته ومع أنها قامت بشراء كتاب عن العمق الا انها لم تفهم ما به لهذا حاولت العودة إلى اللاوعي لكنها فشلت ايضا وهذا يحقق القول أن ما بعد تطوير الوعي حتى وإن كان تطويرا اوليا يستحيل أن يعود إلى ماقبله ، ونرى ذلك في التعليم فعندما تتعلم الالف باء مستحيل العودة إلى ماقبل التعليم نهائيا ..


ثالثا : مرحلة مابعد الوعي وسوف أسميها هنا في هذا النص والفيلم إنتكاسة الوعي البحث عن العمق أو "هوس العمق" الذي حقق معنى القصة، وطبعا الانتكاسة هنا كانت قاتلة فتحمل ضغط الوعي والبحث عن العمق بشكل عشوائي غير منتظم وغير مرتكز على تقبل الوصول من عدمه وبدون معرفة كيفية التوظيف يقود الفرد إلى نهاية مأساوية، الشتات الفكري من ثم العزلة كخطوة اولية ثم  الانتحار في النهاية، وذلك لأن بروز الوعي والادراك بدون حلول لكل استجوابات العقل، عند عقول غير قادرة على  تقبل الوعي والتوائم معه بسلبياته وايجابياته يحول الحياة إلى جحيم وظلام وسوداوية وقد تمثل في الفيلم في تدمير كل ماقبل الوعي من لوحات وانتاج لأنه أصبح في نظر الفنانة مجرد اشتغال سطحي لا عمق فيه، وقد نعيد ذلك لعدم تقبل مرحلة الوعي والادراك ومحاولة معالجة ذلك بتطوير الذات أو تقبل عدم الوصول ومواصلة البحث بدون رد فعل انتكاسي ،

إن الخروج من الحياة مسألة منطقية لحامل الوعي الذي لا يحتمل ذلك الادراك الهائل للعدمية والركام الكبير والذي لا يستطيع زحزحته أو معالجته بشكل مباشر، لهذا حامل الوعي الغير قادر على تحمل سلبياته وايجابياته يرى في الخلاص فكرة منطقية وهذا ما تحقق في نهاية القصة بالانتحار وهو ما يقود بعض الافراد بالغالب إلى ذلك او ما يجول في رؤوسهم على الدوام عند ظهور الوعي بشكل مفاجئ.. 


 ختاما

سوف أختلف مع كاتب القصة في النهاية و التي حاول من خلالها القول أن الصدم بالعمق يترتب عليه الدفع إلى "هوس العمق " الذي يصبح مرض لا علاج منه، إذ يرى أن النقد قد كون تشظي داخلي غير منطقي لهذا ركز على القول في نهاية القصة أن هوس العمق .. تلك الرغبة الطائشة القاتلة ..

 وهو هنا يرى أن العمق يولد رغبة غير ايجابية، سلبية بالمجمل وطائشة بالغالب، وهذا تحوير للمعنى العام للعمق ومحاولة إيهام القارئ أن العمق من خلال الدفع به أو الاشارة إليه أو اطلاقه سبب للتدمير بالمجمل ويقود الإنسان إلى هوس طائش قاتل يفضي إلى الموت وهذا كلام غير مقبول جزئيا وذلك لأن الدعوة للعمق بالغالب دعوة إيجابية غير فرضية لا توجب حمل العمق ولكن تدفع به إلى حيز المعرفة للمساعدة على ولادة الوعي الايجابي الذي يدفع نحو توسيع الادراك وتطوير الذات،ويظل كل ذلك الدفع من الناقد توعوي لا فرضي.. من الناحية أخرى يتحمل القارئ أو المبدع مسؤلية الوعي الذاتي وعليه عدم الانجراف إلى تحقيق آليات الوعي بشكل كلي لأنها غير تامة وقاصرة بالمطلق لأن الوعي أو الإدراك والعمق نظري ويتوزع إلى عدة أطر لهذا لا يجب التعويل عليه في حل كل التساؤلات مهما حاول العقل حثه على ذلك ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبد الرحمن منيف و قصة حب مجوسية

الـ تـ فـ ا صـ يـ ل